أ.د. محمد سهيل الدروبي
كما هو معروف وكما تم ذكره في العديد من محاضراتنا السابقة ان اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية مصمم وقائم على الديون اي على الاستدانة فهي أكبر دولة مدينة في العالم ولكن الذي يجعلها الدولة العظمى اقتصاديا -كما يقولون- هي هيبتها وسلطتها وقوتها العسكرية المهيمنة على العالم مما يجعل العالم يطيع ويقبل هذه السيطرة أو الهيمنة على اقتصادياته.
فالدولار كما هو معلوم عبارة عن ورقة دين على الولايات المتحدة الأمريكية بمعنى أن من يملك دولار في الواقع هو دائن للولايات المتحدة الأمريكية بما يعادل هذا الدولار. ومن المعلوم أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع أن تسدد هذه القيمة على الإطلاق إلا بسند مماثل أي بدولار دين جديد على الولايات المتحدة الأمريكية ولهذا السبب كان لابد للولايات المتحدة من استخدام كل ما هو متاح سواء من سيطرة عسكرية، ضغط سياسي، ضغط اقتصادي أو من هيمنة إلى آخره، لجعل الناس أوالدول الأخرى تطلب الدولار وبالتالي تقرض الولايات المتحدة الأمريكية. فإذا نظرنا في الواقع إلى اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية المنتجة للدولار غيرالمغطى هي في الواقع تعيش على حساب الدول الأخرى بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وفي هذا المجال أيضا تم تسعير معظم المواد الأولية التي يحتاجها العالم لصناعاته ولنموه ولزراعته بالدولار وهذه المواد الأولية لا تباع ولا تشترى إلا بالدولار وأيضا لا ننسى أن هناك الاتفاقية التي وقع عليها منتجي النفط في العالم وهي اتفاقية البترودولار والتي تقضي في الواقع أن لا يباع أي برميل نفط في العالم إلا بالدولار الأمريكي فلا يسعر ولا يباع ولا يشترى إلا بالدولار الأمريكي وطبعا كون النفط هو سلعه تحتاجها كل دول العالم فلكي تستطيع شراءها لابد أن تملك دولارات ولكي تستطيع أن تملكها لابد أن تقرض الولايات المتحدة قيما حقيقية وتأخذ مقابلها سندات على الولايات المتحدة سواء بصيغة الدولار المطبوع أو الدولار الديجيتال على الحسابات أو عمليا سندات الخزينة الأمريكية. باختصار فإن الدول كلما أرادت أن تشتري بترول أو تشتري أية مادة خام تحتاجها، فهي مضطرة إلى أن تقرض الولايات المتحدة ما يعادل القيمة وتأخذ مقابلها سندات على الخزينة الأمريكية “دولارات” لكي تستطيع أن تدفع بها قيمة مشترياتها.
بالعودة إلى موضوع الكورونا فإنه كما ذكرنا في خاطرة سابقة، جاء في الوقت المناسب ليغطي على الأزمة الاقتصاديه. وقد تبين أن إدارة الحكومة الأمريكية كانت إدارة فاشلة من حيث النظرة العامة في مواجهة كورونا ولكن قد تكون إدارة خبيثة لاستغلال هذه الأزمة لتغطية الأزمة الاقتصادية. فقد نشر في العديد من المقالات والبحوث والاستقراءات الصادرة عن منظمات وهيئات بحث وأحيانا وكالات حكومية أن عدد الأمريكيين الذين لا يملكون قوت يومهم تجاوز 30 مليون مواطن، طبعا هذا رقم كبير ومؤثر في الولايات المتحده الأمريكية ويؤهل عمليا المجتمع للدخول في مخاطر عديدة وثورات اجتماعية مما جعل الإدارة الأمريكية اليوم تحاول استغلال أزمة كورونا من جهة وتغطية الفشل الإداري والاقتصادي من جهة أخرى وذلك بإعلان ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية انه يطلب اعتماد 2 تريليون دولار يعني الفي مليار دولار لدعم القطاعات والأشخاص والمواطنين الذين تأثروا من وباء كورونا، ثم أعلن أن الكونغرس قد وافق على اعتماد هذا المبلغ بناء على طلب الرئيس. 2 تريليون دولار من أين سيأتون بهذا المبلغ؟ بالتأكيد اتفق مع البنك الفيدرالي أو بنك الاحتياط الفيدرالي على طباعة وإصدار سندات بهذا المبلغ ولكنه سيضطر الآن لمواجهة مشكلة أخرى وهي كونه مضطرا لمشترين أو لمقرضين لهذه السندات. بمعنى أنه لو أصدر 2 تريليون دولار فهو يحتاج إلى ايجاد جهات مختلفة تأخذ هذه الدولارات وتعطيه قيم حقيقية ولو لم يحدث ذلك فإن قيمة الدولار ستنخفض وترتفع الأسعار داخل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل تلقائي. فقد اعتاد أنه كلما أراد أن يمول خزينته بشكل أو بآخر، أن يصدرعددا من الدولارات ثم يأتي بمن يشتريها أو يطلبها ليسدد مقابلها قيما حقيقية. من أكبر المقرضين للولايات المتحدة الأمريكية هي الدول التي تحتاج إلى النفط أو البترول فعندما كان البترول بأسعار جيدة كانت الصين وحدها مثلا تحتاج مبالغ ضخمة لشراء البترول ولكن الآن توجد مشكلة كبيرة، أن سعر البترول انخفض بشكل مفاجئ إلى ما يعادل 20 بالمئة من سعره قبل أشهر بالإضافة إلى أزمة كورونا وانتشار الوباء في هذه الدول والحجر الصحي مما اضطر هذه الدول لخفض أو إبطاء الإنتاج وبالتالي لم تعد هذه الدول بحاجه لنفس الكميات من البترول وبكل الأحوال كون سعر البترول انخفض بهذا الشكل لم تعد تهتم عمليا بالحصول على مبالغ كبيرة من الدولار الأمريكي لشراء البترول.
الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية سيكون كارثيا ان لم تستطع اغراء بعض الدول أو المستثمرين بشراء الديون الأمريكية ، بالطبع بنك الاحتياط الفيدرالي سيطلب من البنوك المالكة له على كل الأحوال أن تغطي جزء من هذه الإصدارات وأن تمتلكها في محاولة لبيعها فيما بعد بأرباح لمن يحتاجها هذا من جهة ومن حهة أخرى، فإن هذا المبلغ سيصدر على دفعات وبالتالي قد يستعمل كحقن مسكنة تؤجل اندلاع الثورات والانتفاضات داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد ما، والبعض يقول أن المخرج لابد أن يكون بحرب تعلنها أو تشنها الولايات المتحدة الأمريكية مما يجعل الدول الأخرى تزيد الطلب على المواد الخام المسعرة بالدولار وبالتالي تزيد الطلب على الدولار الأمريكي لتخرج امريكا من ازمتها الاقتصادية، علما بأن هذه الأزمة ليست مقتصرة على الولايات المتحدة الأمريكية وإنما ستشمل العديد من دول العالم خاصة الغرب الأوروبي وبعض دول النفط المعتمدة تماما في اقتصادياتها على اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية. فالبعض تصور انه خلال أشهر ستعلن الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على الصين أو على عدو مختلق كما اختلقت الإرهاب سابقا، على كل الاحوال أظن أنه مهما حاولت أن تفعل الولايات المتحدة الأمريكية ومهما حاول نظام المصرفيين الربوي أن يفعل فإن النظام الاقتصادي العالمي سينهار قريبا وقريبا جدا، بعد فترة وجيزة قد لا تتجاوز السنتين مالم يتم تعديله نحو اقتصاد أكثر عداله وأكثر منطقية ليكون اقتصادا حقيقيا منتجا. والأموال التي جمعها هؤلاء المرابون ستكون حسرة عليهم لأنهم لن يستطيعوا إجمالا إعادة تدويرها أو حتى استخدامها بالكامل.
هذا باختصار تصورنا عن الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية وإن شاء الله في خواطر قادمة سنتحدث عن تأثير الأزمة الاقتصادية وكورونا على بعض الدول الأخرى وخاصة دول الخليج العربي التي ندعو الله أن يحفظ شعبها من كل سوء.
د.محمد سهيل الدروبي 10.05.2020
بوركت وجزاك الله خير على اجتهادك وجهدك.. ادامك الله.